الوثيقة الفكرية لتيار سورية الجديدة

الوثيقة الفكرية لتيار سورية الجديدة

 

تمرُّ سورية في  مرحلة فاصلة من مراحل تاريخها، تستدعي التخطيط لمسيرة المستقبل، وتوجب على الفرق السياسية، باختلاف مرجعياتها الفكرية، أن ترسي أسس الواقع الجديد الذي يُنهي الاستبداد ويحقق تطلعات السوريين في بناء الإنسان الحر والبلد المستقرّ، المنسجم مع نفسه، الذي يبني مستقبله لبنة لبنة.

أولاً: يسعى تيار سورية الجديدة لأن تكون سورية دولة مؤسساتٍ يضبط القانون سلوكها، ويؤمّها ذوو الكفاءة، وتتشارك مع  قوى ومنظمات المجتمع المدني في إدارة شؤون المجتمع، وبذلك ينتفي أي دور للأجهزة الأمنية والعسكرية في العملية السياسة وتكون هذه الأجهزة تابعة للإرادة السياسية التي توافق عليها السوريون.

ثانياً: المواطنة هي عقد انتفاعٍ مشترك والشعور بالتساوي فيه أمرٌ ضروري من أجل إدارة الحياة المتغيرة، وإنّ عقد المواطنة، وفق دستورٍ وقوانين يستوي فيها كلّ من اعتبر مواطناً، أمرٌ مطلوبٌ للتأسيس القانوني الإجرائي للعيش المشترك، لا سيما مع ازدياد تنقل السوريين وتنوع خلفياتهم، واعتماد حياتهم على المرافق العامة. إن الانتفاع يُنشئ روابط بين السوريين ويُشعرهم أنّ حياة كلٍ منهم معتمدةٌ على الآخر، فيدفع ذلك فئات الناس إلى قبول بعضهم البعض بناء على الاشتراك في الحاجات.  ولكنّ روابط هذا الانتفاع المشترك للمواطنة لا تُحرّم على الناس الانتماء لما هو أبعد من الانتفاع، ولما هو أعمق في قلوبهم من المواطنة.

ثالثاً:  يشكل المجتمع المدني صمّاماً ضرورياً ينبغي أن يرافق تشكيلة الدولة القوية، وينبغي ألا يقتصر على المؤسسات الحديثة الوظيفية بل يجب أن يشمل المجتمع الأهلي التراحمي أيضاً. يرى تيار سورية الجديدة أن مفهوم المجتمع المدني مفهوم شامل مبنيٌ على فكرة تعدّد الترابطات المجتمعية، وتتسع المساحة التي تتحرّك فيها مؤسسات المجتمع المدني بحيث أنه لو غابت الدولة أو قصرت إمكانياتها بقي بناء المجتمع قائماً بفعل الحوامل والروابط الاجتماعية الكثيرة بكافة الاتجاهات.

رابعاً: إن العناصر الأولية لنموذج الحكم المنشود في سورية تتمثل في (1) التشاور والتدبّر الجماعي في اتخاذ القرارات؛ و(2) اختيار الريادة من الشعب؛ و(3) اعتماد الاختيار بناءً على الكفاءة والقيم المُتبناة؛ و(4) سيادة القانون بالتساوي بين جميع المواطنين؛ و(5) اللامركزية الإدارية في بنية الدولة.

والممارسة التطبيقية لهذا النموذج تستوجب (١) اعتياداً وتوقعات، و(٢) بنى مؤسساتية، و(٣) مهارات تطبيقية وأدوات عملية.

وبناءً على ذلك فإن نظام الحكم المُبتغى يجب أن يتمتع بالصفات التالية:

  • إن الهدف العام لنظام الحكم هو السعي نحو تحقيق الأمن والرفاه والمساواة والعدالة الاجتماعية، وليس مجرد الاستجابة لما يراه الأفراد حقوقاً شخصية أو مجرد الوصول إلى إجماع بين القوى المتنافسة. فنظام الحكم في سورية يجب ألا يرى المجتمع كمجموعة أفراد فحسب، بل أن يرى المجتمع كنسيج عضوي يتشكل من تكتلات متعددة لها قيام ووجود منفصل عن الدولة ولا يختزل فيها. فالمجتمع سابق على الدولة.
  • إن دور الدولة ليس مجرد التحكيم بين الأطراف المتنافسة، ولا تحقيق أمل الأغلبية على نحو انتصار الغلبة، وإنما يتمثل دور الدولة في تحقيق الأمل العام للمجتمع .
  • تراعي الممارسة السياسة مصالح المكونات المتعددة وتسعى إلى خدمتها من خلال استقطاب الكفاءات من أي مكونٍ كان بقصد المساهمة في تحقيق أهدافه عامة.
  • التشجيع على مشاركة المواطن في الحياة السياسية، والإدارة في المؤسسات توكل مطلقاً إلى الكفاءة، فالمحاصصة الفئوية في إدارة المؤسسات تفسدها وتبدِّد قوتها.
  • إن حقوق السوريين تتحدّد في أن تكون مصالح الأفراد خاضعة لمصالح الغالبية. وإنَّ كون عامة المصالح محميةٍ دستورياً ضمن مبدأ المساواة القانونية وأمام القضاء لجميع السوريين، لا يمنع من وجود حقوقٍ جماعيةٍ ثقافية معتبرةٍ لمكونات معيّنة، وحقوق اجتماعية توافقية غير مندرجة ضمن صلاحيات الدولة أو تتجافى عنها الدولة. وخيارنا هذا مبنيٌ على الجديّة في رعاية الخصوصيات، كما هو مدفوع بنظرةٍ واقعيةٍ تتجنّب إثقال أجهزة الدولة بما يمكن للمجتمع أن يقوم به على نحو تلقائي.

أما على مستوى السياسات والتدابير، فيرى تيار سورية الجديدة أن هناك ثلاثة أوجه محدّدة واجبة يُشكِّل غيابها موانع لتحقّق ما يُرجى من نظام الحكم: وهي محو الأميّة، والمقاربة بين المستويات المعيشية، والتخطيط السليم للمدن والقرى والأحياء. ويصطفّ إلى جانبها ثلاثة أوجه راجحة يُشكِّل إهمالها عوائق في الممارسة العمليّة، وهي: ترقية الذوق الثقافي، وتشجيع الأعمال الصغيرة، وفاعلية نظم الاتصال والمواصلات.

خامساً: إن الحرية هي أحد القيم الأصيلة في فكر تيار سورية الجديدة وممارساته؛ حريةٌ لا تنتهك الدين و لا تخرجه عن فاعليته الاجتماعية في الشأن العام، ولا تقدم النزعة الفردية الغالبة، ولا تتمحور حول المطالبة بالحقوق الفردية المفضية إلى هدر المصالح الكبرى للمجتمع من أجل تلبية مطالب فئات صغيرة لها نفوذ ثقافي، أو تلبية أمزجة فئات ناشزة.

من جهة أخرى، تتعلق الحرية عملياً بمنع ولوج الدولة والقانون في دائرة الخاصّ مالم يتعدّ على الحياة العامة وينتهك خصوصية الآخرين. فمن جهة، لا حاجة للقانون أنْ يوجب سلوكاً معيناً، ولا أن يحجزَ عن سلوكٍ معين إلا إذا تجاوز هذا السلوك الحيّز الفردي، والفصل في كل ذلك هو المجتمع ذاته. فما ارتضاه الناس ورأوه طبيعياً ينبغي أن يكون طبيعياً ومسموحاً به على الصعيد الرسمي والقانوني، ولكن لا تُكرِه السلطةُ عليه. وما رآه مجمل الناس غير طبيعي وغير مقبول، فمن الممكن أن يتحفّظ عليه القانون، ولكن ينبغي ألا تتدخّل فيه السلطة إلا إذا تفاقم وتجاوز الحيز الفردي. إن الإصرار على إبعاد الدولة السورية عن التدخّل في الخيارات الشخصية للسوريين هو أن أجهزة الدولة ليست مهيأة بطبيعتها للتعامل مع النواحي الدقيقة في حياة الناس، كما أنَّ تدخّل الدولة لا يحلَّ الإشكال، وإنما لا بدّ من تفعيل حركيات مجتمعيّة لمعالجة السلوك البشري. كلّ ما هو مطلوب من السلطة السياسية هو تمكين المجتمع من القيام بالأدوار التي تحميه بحسب القناعات والمسلمات الاجتماعية التي عليها شبه إجماع.

سادساً: يتساوى السوريون، رجالاً ونساءً، استواءً كاملاً في حقوق المواطنة وواجباتها، وإن للمرأة السورية دوراً فاعلاً في المجال المجتمعي الإنساني يجب إبرازه، وإعادة تمكين فاعليّة هذا الدّور في المجال الحقوقيّ والمدنيّ، باعتبار المرأة هي فاعل أساسي  في مضمار العمل السّياسي، وتستوي مع الرجل قيمةً ووظيفةً ودوراً في مسيرة بناء الاجتماع السّياسيّ.

سابعاً: ترى جميع التيارات السياسية أولويّة رؤاها وصوابها، إلا أن مرحلة التعافي من الاستبداد واستئناف تشكيل العمل السياسي تتطلّب من هذه التيارات ألا تستبق إرادة السوريين وألا تتخلّف عنها، وإنما تواكب مسيرتهم في رحلة بناء الثقافة السياسية المشتركة جنباً إلى جنب بناء المؤسسات المناسبة.  إن تيار سورية الجديدة يتشارك مع الأكثرية الشعبية، التي قادت التغيير ودفعت الثمن الباهظ لنيل حريتها واسترداد كرامتها، بضرورة أن تنعكس رؤاهم في واقع الحياة، وإن هذه الرؤى تتمثل بالقيم المحافظة المعروفة في المجتمع السوري والنزعة السياسية الرافضة لكل من الاعتباطية والتسلّط في آن معاً. إن رفض الاعتباطية يقتضي تبنّي وسائل الإدارة الديمقراطية بعد أقلمتها مع احتياجات المجتمع، ورفض التسلّط يقتضي القطع الباتّ مع سيطرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مفاصل الحكم وإنهاء أي شكل من أشكال تدخلاتها.

ثامناً: إن المستند القيمي لأي نظام سياسيٍّ لا بدّ وأن ينسجم مع الخلفية الثقافية للمجتمع، وإنَّ أقوى رابطٍ جامعٍ يركن إليه السوريون وممكن أن تُسلِّم به الغالبية العظمى منهم هو المضمون الحضاري لتاريخ المنطقة المتمثّل بقيم الحضارة العربية الإسلامية، وخاصة  قيم العدل، والتراحم المجتمعي، والتعارف بين المجموعات الإثنية والقومية، والتشارك في اتخاذ القرار، ومكانة الأسرة، ودور الترتيبات المجتمعية الطبيعية كالرحم والجيرة، وتقديم مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، والتوزيع العادل للمنافع.

إن شرعية الدولة مجذَّرة في المجتمع، فالدولة تدير شؤون المجتمع نيابةً لا أصالة، أما مشروعية الحكم والسلطة فتتحصّل من خلال الآليات والمؤسسات التي تمّ تطويرها.

تاسعاً: إن عروبة السوريين هي عروبةٌ ثقافيةٌ لغويةٌ وليست عروبة قومية عرقية، وهذه العروبة الثقافية تفسح المجال رحباً لأعراق السوريين المختلفة ممن عاشوا سوياً في هذه البلاد دهوراً. إن هذا المجال المعاشي الرحب لا يقتصر على الموقف النفسيّ، بل يجب أن يكون مدعّماً بالترتيبات الإدارية اللامركزية التي تعطي المجتمعات المحلية في سورية صلاحيات واسعة في تنظيم شؤونها المحلية وممارسة خصوصياتها الثقافية.

في هذا السياق فإن الترتيبات الإدارية اللامركزية تتميّز بقدرتها على الاستجابة للخصوصيات ضمن الإطار الكبير الجامع واستثمار الخبرات المحلية وتنميتها، في الوقت ذاته، لا بد من التأكيد على أن التجزئة هي إضعاف للوطن السوريّ وتوطئة للسيطرة الخارجية. عليه.  لذلك لا بد من التأكيد أنّ المجتمع السوري ليس مجتمع أقليات مجزأة  رغم تعدد مكوناته، وإن هذه المكونات مترابطة فيما بينها ومع محيطها، فاللغة العربية وثقافتها تربط بين المختلفين دينياً، والإسلام، ديناً وحضارةً، يربط ما بين المختلفين قومياً. كما أن هناك روابط عرضية أصغر تربط بين السوريين على المستوى المعيشي اليومي الواقع في الأحياء والبلدات، وقيم هذا المجتمع ترتبط بتاريخ المنطقة وحضارتها العربية الإسلامية على نحو لا شك فيه، وهو ما ينسج روابط بين سورية وجوارها.

إن التعددية هي من صفات المجتمع السوري، وكون المجتمع السوري ذا ألوان هي حقيقة حياتية ولا يمكن لأي سياسة أن تتنكّر لها ولو أرادت، ولكن وصف التعددية لا يصحّ إطلاقه على الدولة، فالدولة كيان واحد لا يتجزأ. كما أن التوظيف السياسي لحقيقة التنوع الطائفي والعرقي في سورية مرفوضٌ عندما يُراد منه إلغاء الروابط المشتركة للمجتمع السوري، وحرمان سورية مما يضمن تماسكها ويجنّبها النزعات الانفصالية التي تمنع قيام كيانٍ متعافٍ مُقتدر.

عاشراً: يميّز تيار سورية الجديدة بين مفهوم الشريعة ومفهوم الفقه الإسلامي، فالشريعة هي الأصل، وهي مبادئ عامة للحياة الصالحة وأحكام جزئية وكلية في مختلف صعد الحياة تُكلّلها قيم العدل والتراحم والتشاور وعدم حصر المال في فئات قليلة، أما التراث الفقهي في أبواب السياسة والشؤون العامة فهو في كثير من الأحيان لا يعدو أن يكون اجتهاداً بشرياً استمدّ رأيه من الشريعة في سياق معين.  

إن تيار سورية الجديدة يرفض الفهم القاصر الذي ينظر للشريعة على أنها قوالب جامدة لا تصلح للتطبيق وباب الاجتهاد واسع في المسائل المرتبطة بالزمان والمكان والحال. وكما أن الشريعة من ناحية التجريد هي أعلى من الفقه، فهي من باب أولى لا تُعتبر القانون ذاته، فوضعها على قدم المساواة مع القوانين أو الدساتير فيه اختزال للشريعة وانتقاص من قيمتها الغرّاء. وبناءً على ذلك فإن تيار سورية الجديدة يرى أن دور الشريعة من منظور السياسة والحُكم يكمُن في المقاصد العامة التالية:

  1. تعزيز آليات التشاور والمشاركة والتمثيل والمحاسبة وضوابط القانون والعرف في جميع التشكيلات المجتمعية أدناها وأعلاها.
  2. تحقيق العدالة في المجتمع.
  3. تأمين وحماية أساسيات العيش الكريم، على الصعيد الفردي والجماعي، قبل كمالياتها.
  4. التشجيع على الفضيلة والتضييق على الرذيلة.
  5. صيانة كرامة الأفراد، من الرجال والنساء، وحريات المجموعات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو القومية.

حادي عشر: إن فهمنا لحقوق الإنسان نابع من تصور الإسلام لتلك الحقوق ومن مركزية الرحمة فيه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) 107- سورة الأنبياء، وإذ يثمن تيار سورية الجديدة الإعلان العالمي حول حقوق الإنسان كلغة مشتركة، فإن هذا ينبغي ألا يمنع من طرح مسائل حقوق الإنسان من منظور ثقافي وحضاري يضعها ضمن إطار تصوري مختلف، ثم إجراء التحاور في مفاهيم هذه الحقوق. إن من حق السوريين أن يطوّروا مفهومهم الخاص نحو حقوق الإنسان بشكل مجذّر في ثقافتهم ليعطيها القبول العام والفعالية في التطبيق والانسجام مع طبيعة المجتمع بالإضافة إلى التفاهم العالمي الصادق.

وأخيراً، لا شك أنَّ ما يقدمه تيار سورية الجديدة هو نظرة لها خياراتها الخاصة، فليس هناك في حياة البشر حيادٌ ليس له خيار أو لون. كلّ المطلوب أنْ يحاول الخيار الخاص أن يفهم الآخر، وأن يتّسم بانفتاحٍ يُبقي مساحة كريمة له، وأن يتعاون كل الفرقاء في مسيرة المستقبل المليئة بالتحديات.