بعد أكثر من نصف قرن من الحكم الاستبدادي، تمكنت الثورة السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 من إسقاط نظام الأسد، إيذاناً بمرحلة جديدة تُمهد لنهضة وطنية شاملة، وقد حققت الجهود الدبلوماسية المحلية والإقليمية نتائج مذهلة تجلت في فك العزلة الدولية عن سوريا، وإزالة العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان، كما استقطبت استثمارات ضخمة في قطاعات الطاقة والموانئ تجاوزت قيمتها 8.5 مليار دولار وفقاً للتصريحات الرسمية. ومع ذلك، فإن هذا التقدم الاقتصادي لم يُقابله تقدم موازٍ في المسار السياسي، مما يهدد استدامة مكتسبات الثورة، ويثير المخاوف لدى البعض.
تُظهر التجارب العالمية بوضوح أن التنمية الاقتصادية وحدها لا تؤسس لاستقرار دائم ما لم تقترن بإصلاح سياسي حقيقي، فنجاح جنوب أفريقيا في الخروج من نظام الأبارتيد لم يكن ناتجاً عن تحسن اقتصادي فقط، وإنما بفضل إطلاق عملية سياسية شاملة استطاعت احتواء التوترات وتحويلها إلى دعائم للتعايش. في المقابل، فشل العراق بعد عام 2003 في تحقيق استقرار مماثل رغم موارده المالية، بسبب غياب التوافق السياسي وتفكك المؤسسات.
في السياق السوري، لا تزال البنية الاجتماعية تعاني من التشرذم الذي راكمته عقود من الاستبداد، وتعمّق بفعل النزوح واللجوء والتفاوت المعيشي. وهو الذي أدى إلى نشوء مجتمعات سورية متمايزة داخل البلاد وخارجها، تختلف أولوياتها وسياقاتها النفسية والمعيشية. إن هذا التشرذم يصعب توحيده دون إطار سياسي جامع، فالاستثمارات الاقتصادية قد تسهم في التهدئة المؤقتة، لكنها لا تعالج جذور الأزمة المتمثلة في غياب التمثيل والمشاركة السياسية، وقد يُنظر إلى هذا الجمود السياسي في مقابل التسارع الاقتصادي كبير، على أنه مقايضة الاقتصاد بالسياسة، لذلك فإن تسليط الضوء على هذا الخلل لا يأتي من موقع المعارضة الشكلية، بل انطلاقاً من الحرص على تحقيق التوازن في مسارات التنمية، وصيانة مكتسبات الثورة من التآكل الصامت.
وعليه، فإن إطلاق الحياة الحزبية في سوريا الجديدة لا يُعد ترفاً سياسياً، إنما يمثل ضرورةً جوهرية لبناء دولة مستقرة، فوجود أحزاب مرخصة تعبّر عن التنوع السوري، وتقدم برامج تستند إلى أولويات واقعية، من شأنه تحويل التنوع والاختلاف إلى مصدر طاقة وطنية، والانفتاح السياسي لا يضمن فقط تداول السلطة وتطوير السياسات، بل يحدّ من الفساد ويعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات.
ورغم نص المادة 14 من الإعلان الدستوري صراحة على الحريات السياسية واستصدار قانون الأحزاب، ما تزال الأنشطة السياسية تمارس تحت مظلة إدارات الشؤون السياسية في المحافظات، وهذا ما لا يمنح المواطنين أدوات التعبير أو التنظيم المستقل. إن عدم الإسراع باستصدار قانون الأحزاب يضيع فرصة التواصل بين الأحزاب الناشئة والمواطنين خلال سنوات المرحلة الانتقالية الخمس، ويهدد بتحويل فرصة نجاح الانتخابات العامة بنهايتها إلى لحظة ضياع.
من هنا، فإن إصدار قانون الأحزاب قبل نهاية العام الحالي يجب أن يُدرَج كأولوية وطنية قصوى لحماية مكتسبات الثورة وتعزيز المشاركة الشعبية في إعادة بناء الدولة. إن بناء سوريا الجديدة لا يكتمل دون توازن تنموي حقيقي بين الاقتصاد والسياسة، يُرسخ الحقوق والحريات، ويؤسس لدولة حيوية حديثة.
محمد سمير الخواجه
عضو تيار سورية الجديدة
01-06-2025
