في سوريا الجديدة: السياسة مسار لا اختيار

تاريخ النشر - 2025-06-04

عاشت سوريا عقوداً طويلة تحت وطأة القمع السياسي، حيث احتكر حزب واحد -حزب البعث-  الفضاء السياسي وحوّل الحياة العامة إلى ساحة خالية من التنوع والحوار، حيث كان النظام البعثيّ يُصرّ على فرض أيديولوجيا واحدة، ويسعى لتطبيقها بطرق مختلفة من خلال تجنيد الأطفال في المدارس ورحلات الكشافة، مروراً بقرارات منع التوظيف لغير المنتمين لهذا الحزب، انتهاءً بالسجن والتعذيب بل والقتل لمن يخالف الحزب ويعترض عليه في العلن.

سياسة الحزب الواحد  هذه لم تترك مجالًا للنقاش أو النقد، وسلّطت جميع الأدوات لكمّ الأفواه وتغييب الحياة السياسية وحتى تغييب المصطلح نفسه "سياسة" عن الناس، ووأدت جميع الأفكار السياسية التي وُلدت بعد وصول بشار الأسد للحكم، مثل ربيع دمشق وإعلان دمشق.

ومع مرور الوقت، أُطفِئت السياسة في قلوب الناس، وأُجبروا على العيش في ظل انكسار روح المبادرة والانخراط السياسي، سوى من أقلام حرّة في المهجر، وأنّى لمن عاش في دولة الرعب أن يقرأ هذه الأقلام أو يرددّ أفكارها.

 

هذا القمع لم يكن مجرد كبتاً للحريّات فقط، بل كان مسحاً للسّياسة من أذهان النّاس، حيث باتت السّياسة تُرى كمسار محفوف بالخطر والخذلان، ما جعل معظم الناس يعزفون عنها تماماً، وأصبح الخوف هو الرادع لأيّ حديث عن السّياسة، وأُقصي صوت المواطن العادي من معادلة الحكم، ممّا أدّى إلى تجمّد التطوّر السّياسيّ والاجتماعي.

 

بذور الأحلام:

عند اندلاع الثورة السورية عام 2011، عادت السياسة إلى الواجهة كمساحة للتعبير عن تطلعات الناس نحو الحرية والكرامة بعد عقود من القمع والبطش الممارس من الحزب الواحد.

فأصبحت الشوارع والساحات مسرحاً للنقاش الوطني، وبات التنافس بين المناطق السوريّة واضحاً في قوّة الشعارات وتوحيد المطالب بإسقاط الديكتاتوريّة وبناء وطن يحتوي الجميع، لكن مع تصاعد العنف وقمع النظام للاحتجاجات السلميّة، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع معقّدة، واختلطت السّياسة بالمصالح الإقليميّة والدوليّة، ورغم ذلك، ظلّت الثورة تُمثّل تمرّداً سياسيّاً على الحزب الواحد، لتعبّر لإرادة الشعب في استعادة حقوقه وحرّياته المسلوبة.

 

الجذور الهشّة:

بعد سقوط النظام، بدأت سوريا تقف على عتبة جديدة على كافة الأصعدة، عتبة تتطلب رعاية البذور السياسية التي دُفنت لعقود، وأُنبتت باندلاع الثورة، وسقيت بدماء الشهداء وتضحيات السوريين، وظهرت جذورها الهشة بسقوط الطاغية والحزب الحاكم، لذا لابد لهذه الجذور من تربة مناسبة وبيئة ملائمة كي تنمو وتستغلظ وتُثمر مجتمعاً حرّاً يعيش في أجواء سياسيّة تنافسيّة، حيث تتعدّد الأفكار والرؤى، وحيث تُناقش القضايا الوطنية بحريّة وأمان.

 

في سوريا الجديدة، يجب أن تكون السياسة مساراً حتمياً لكل مواطن يسعى لبناء وطنه، وليس خياراً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه، فالمرحلة المقبلة تحتاج إلى أحزاب حقيقية قائمة على برامج واضحة، تسعى جميعها لتحقيق هدف واحد: ضمان حريّة الإنسان في التعبير عن أفكاره ورؤاه والسعي لتأمين متطلبات المواطن السوري ورفاهيته.

 

نحو فضاء سياسي تعددي:

الطريق إلى ذلك ليس سهلاً، حيث يجب أن يُعاد بناء الوعي السياسي الذي تآكل عبر العقود، ويتطلب هذا الأمر جهداً جماعياً لبناء ثقافة سياسية تعتمد على الحوار، لا الإقصاء؛ على المنافسة البناءة، لا الصراع العبثي؛ وعلى الشراكة، لا التفرد.

وذلك من خلال أدوات ممكنة وليست مستحيلة، يبدؤها المرء مع دائرته الضيقة (الأسرة)، فلابد للسوريّ أن يجعل للسياسة حظاً في بيته، يردد أحاديث السياسة مع عائلته، ومع أصدقائه في المقهى وفي غرف التواصل، وليعلُ صوت السياسة وتبادل الأفكار والآراء، والتعبير عن ذلك كلّه دون خوف، هذا ما يشكل فضاء سياسي ووعي الجمعي، والوعي الجمعي هو المسار الصحيح لبناء الدولة.

من هذه الأدوات أيضاً تفعيل الصالونات السياسية، وتشكيل الأحزاب، وإنشاء ندوات سياسية وحضور هذه الندوات من قبل الشباب والشابات والأطفال.

 

في سوريا الجديدة، يجب أن نضع الإنسان في قلب السياسة، ليس هدف السياسة مجرد الوصول إلى السلطة، بل تحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى التعليم والصحة، وبناء اقتصاد قوي، وتوفير الحريات التي تضمن لكل فرد حق التعبير والمشاركة، وهذا لا يتحقق بالإنطواء عن السياسة والبعد عنها، وتركها للسلطة الحاكمة، بل بالمشاركة والانخراط فيها والتفاعل معها.

 

السياسة كسبيل لبناء الحضارة:

لطالما كانت السياسة موجهة للإنسان وتحقيق مطالبه وحريته، فنحن في سوريا بعد زوال دولة الرعب، أمام فرصة تاريخية لطرح نموذج سوري جديد يُظهر للعالم أن السوري الذي ضحى بالغالي والنفيس لتحقيق حريته، يستحق أن يعيش بحرية وكرامة وبنظام يُبنى على الحوار والتعددية، لا على القمع والاستبداد والديكتاتورية.

عبدالله حج قاسم

عضو في تيار سورية الجديدة