مع سقوط نظام الأسد ودخول قوى الثورة إلى مفاصل الإدارة الحكومية، سادت مرحلة انتقالية حذرة، اتسمت بمحاولة اجتثاث الفاسدين الكبار، فيما بقيت الكوادر المتوسطة والدنيا – التي تربّت لعقود على منظومة الفساد – تمارس الانتظار والتكيّف. ورغم أن مظاهر الفساد قد تراجعت ظاهرياً بنسبة تجاوزت 90% في بعض الدوائر، إلا أن المناخ لم يُجتث بالكامل، بل تحوّل إلى ممارسة خفية منبوذة تخضع لحسابات دقيقة، تختلف من محافظة لأخرى بحسب طبيعة عمل الوزارة ومدى ترسخ ثقافة الثورة لدى الموظفين والمواطنين.
إن إرث الفساد في سوريا لا يمكن فصله عن بنية نظام الأسد ذاته، إذ شكّل الفساد فيه ركيزة اقتصادية واجتماعية لإرضاء الحاضنة الشعبية، خصوصاً مع انهيار الأجور واتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع. تمركز هذا الفساد في قمة الهرم، عبر شبكات التجار المرتبطين بالعائلة الحاكمة مثل مخلوف والقاطرجي وشركاتهم، الذين حوّلوا الاقتصاد الوطني إلى نموذج حيّ لحكم اللصوص "Kleptocracy"، وانتشر تدريجياً ليصل حتى أصغر رتبة وظيفية حيث تُقسّم موارد الدولة على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة أو الحاجة. في هذا السياق، تؤكد مؤشرات الفساد لعام 2024 عمق الأزمة، إذ جاءت سوريا رابع أكثر دولة فساداً في العالم، محققة 12 نقطة من أصل 100، بعد أن كانت 13 نقطة عام 2023، وفق تقرير الشفافية الدولية. وعلى الرغم من وجود الفساد حتى في أكثر الدول تقدماً مثل الدنمارك وفنلندا وسنغافورة، إلا أن هذه الدول تملك منظومات رقابية تحوله إلى فضيحة تُعاقَب، لا إلى سلوك يُتسامح معه.
اليوم، وعلى الرغم من بروز مدراء ثوريين مخلصين، فإن ضرورات المرحلة الانتقالية، وعدم وجود ذاكرة مؤسساتية، اضطرهم إلى الاعتماد على "خبراء" من بقايا النظام السابق، تفادياً لوصول المؤسسات الحكومية إلى حالة من الشلل الكامل. وقد استغلّ بعض الموظفين القدامى ذلك، ليعيدوا التغلغل في قلب القرار الإداري تحت ذرائع "المعرفة" و"فهم التفاصيل"، حتى بلغ التكويع ببعضهم أن صاروا يقدمون أنفسهم كـ"أبناء ثورة"، محاولين من خلال هذه المزاودات إعادة تطبيع منظومة المحسوبيات القديمة. ومن الجدير ذكره أن مسألة الفساد هنا لا تقتصر على الموظفين وحسب، فحتى بعض المواطنين عادوا ليعرضوا الرشاوى من تلقاء أنفسهم لتسريع إنجاز معاملاتهم، مما يدل على عمق تغلغل الفساد ثقافياً.
إن ما يمنع العديد من الموظفين في هذه المرحلة من العودة للفساد ليس قناعة أخلاقية، بل رقابة مباشرة من المدراء الجدد. فالكثير من الفاسدين ظلوا في مواقعهم، ويعيشون حالة كمون بانتظار اتساع هامش الفرصة وعودة المبررات القديمة. وتتجلى هنا بوضوح مكونات مثلث الفساد: الضغوط الاقتصادية المستمرة المتمثلة في الأسعار المرتفعة وتدني الأجور، ووجود الثغرات الإدارية التي تشكل فرصاً جاهزة، إلى جانب تبرير موروث يرى في الفساد "أهون الشرور" أو وسيلة "لتسيير الأمور".
أما فيما يتعلق بالعقود المبرمة بعد رفع العقوبات عن سوريا، فإنه من المفهوم أن تبرم العقود في بعض الحالات السيادية أو الأمنية (كعقود التسليح، وتنقيب واستخراج النفط والغاز) عبر التعاقد المباشر، إلا أن غياب الشفافية في معظم العقود الحكومية الحالية - كما في مشروع بوليفارد حمص- حيث يتم التعاقد دون مناقصات، يُفتح الباب واسعاً أمام الفساد مهما حُسّنت النوايا. إن تفهم مقتضيات المرحلة الانتقالية لا يمنع أن القاعدة العامة يجب أن تقوم على الشفافية، وخصوصاً في مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص من نمط PPP أوBOT ، فكلما زادت الشفافية انحسرت فرص الفساد المتربص ضمن المساحات الرمادية لينقض على الدولة المنشودة.
إضافة لذلك، لا بد من العمل على رفع الأجور إلى الحدّ الذي يؤمّن حياة كريمة للموظفين، واختصار البيروقراطية التي تشكّل بيئة خصبة للفساد، عبر تطوير الإجراءات وأتمتتها بما يقلل التماس البشري ويزيد الكفاءة. كما يجب فرض رقابة صارمة وشفافة، إلى جانب رفع الوعي العام بخطورة الفساد وآثاره على مستقبل البلاد، بما يعزّز ثقافة المساءلة ويعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
في هذه المرحلة، يصبح الحرص على نجاح دولة الثورة دافعاً أساسياً لتسليط الضوء على مكامن الخلل، دون الوقوع في مثالية مفرطة تتجاهل الحالة الاستثنائية التي تمر بها البلاد. فالتشخيص الصريح للواقع، مهما بدا صعباً، هو الخطوة الأولى نحو بناء إدارة نزيهة وعادلة. وذلك لئلا يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة، ويعود سرطان الفساد لينخر من جديد جسد الدولة المنشودة، ويُجهض ما تبقى من أمل بمؤسسات وطنية تُدار بكفاءة ونزاهة.