اليوم، يكثر الحديث عن إعادة إعمار البلاد، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إعادة إعمار النفسية السورية المحطمة أمر بالغ الأهمية، ولا يقل شأنًا عن إعادة إعمار الحجر.
وفي ظل تسارع المراحل التي تمر بها الدولة الوليدة، لم تعد الجروح النفسية أمرًا يمكن تأجيله أو تجاهله. إن تيار سورية الجديدة يرى أن بناء الإنسان السوري هو الشرط الأول والأساسي لبناء سورية الحرّة، العادلة، التعددية، والمستقلة.
ومن هنا، فإن معالجة الصدمة النفسية الجماعية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من معركتنا من أجل التحرير الكامل – ليس فقط من الاستبداد، بل من آثاره وتوابعه الداخلية العميقة.
لقد أثبتت تجارب دول خرجت من الحروب الكبرى أن إعادة بناء الإنسان لا تقل أهمية عن إعادة بناء الدولة.
ففي ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان الاعتراف بالصدمة والذنب جزءًا من التعافي الجماعي، وقد ساهمت برامج الصحة النفسية الجماعية في تجاوز آثار النازية والحرب.
وفي رواندا، لم تكن المصالحة ممكنة بعد الإبادة الجماعية دون مراكز الدعم النفسي والعدالة المجتمعية التي عالجت الجراح الأخلاقية العميقة.
أما فلسطين، فالصحة النفسية باتت جبهة موازية للمقاومة، حيث ظهرت مؤسسات عالجت الصدمة والتروما كجزء من معركة الصمود اليومي.
"إن استمرار الأثر النفسي للحرب – من فقدان وخوف، وقصف وتعذيب، وسجون ومعتقلات، وصدمات متكررة امتدت لأربعة عشر عامًا – يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام طاقات الفرد وقدراته الفطرية التي أودعها الله فيه.
قال تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"سورة التّينِ_الآية 4
إن تفعيل المجتمع، وجعله يؤمن بقدراته بعد أن كُفِر به، وخاصة فئة الشباب، هو قاعدة يُبنى عليها.
لن نتمكن من البناء ما لم نبنِ أنفسنا أولًا ونتصالح مع ماضينا
كيف نبدأ؟
دعم وتمكين المبادرات المعنية بالصحة النفسية، خاصة للناجين من المعتقلات، وللأطفال المتأثرين بالحرب، وللنساء اللواتي تحمّلن عبء النزوح والفقد.
نشر التوعية والتثقيف بأهمية العلاج النفسي، ونزع وصمة العار المرتبطة به، عبر الإعلام، والمناهج، والمجتمع المدني.
تحقيق العدالة الانتقالية، لأن الجرح لا يلتئم دون اعتراف ومحاسبة واعتذار، وهذه خطوات لا غنى عنها لأي مصالحة حقيقية.
نحن في تيار سورية الجديدة نؤمن أن الإنسان هو الهدف والوسيلة، وأن الصحة النفسية ليست ترفًا نظريًا، بل شرط من شروط الحرية والكرامة.
في سورية ما بعد التحرير، لا مكان لثقافة الإنكار، أو تبرير العنف، أو تهميش الألم. نريد وطنًا يعترف بأبنائه وآلامهم، يصون كرامتهم، ويمنحهم أدوات الشفاء والمشاركة الفاعلة.
إن معركتنا القادمة هي معركة ترميم الداخل.
لذلك، نمد أيدينا إلى كل المختصين، والناشطين، والمجتمع المدني، لبناء جبهة سورية جديدة... لا تحرّر الأرض فحسب، بل تحرّر الإنسان من أشباح ماضيه.