مقدمة:
تمر سوريا بعد التحرير بمرحلة مفصلية عقب أكثر من عقد من الثورة والمعاناة، وهي مرحلة تتطلب تأسيس دعائم دولة قوية، تحترم إرادة الناس، وتُبنى على قواعد العدل والشفافية والمحاسبة، ومن أبرز ما يهدد هذه الدعائم في الوقت الراهن هو غياب آليات الرقابة الفعّالة على القرار الحكومي، وضعف الشفافية في كثير من التعيينات والاتفاقات الرسمية.
ففي الوقت الذي يعود فيه بعض الأشخاص من مسؤولي النظام السابق إلى مواقع قيادية، أو يخرج آخرون من السجون ليعودوا إلى مفاصل الدولة أو بيوتهم ليكمل ا حياتهم دون محاسبة عن جرائمهم، فإن غياب الشفافية وعدم وجود جهات رقابية مستقلة، يجعل هذه التحولات تمر دون مراجعة أو توضيح، وتصبح واقعاً مفروضاً، وقد ينتج عنه تكرار لآلة فساد سابقة، كما ان الأمر قد يُفهم شعبياً بشكل خاطئ، ويهدد الثقة العامة بمسار الدولة وتطبيقها لما سنّته من قوانين وتشريعات منذ التحرير إلى الآن.
ولأن الغاية هنا ليست الاتهام، بل إطلاق حوار وطني هادف نحو الإصلاح، فإن هذا التقرير يسلّط الضوء على أهمية الرقابة والشفافية، ويستعرض حلولاً عملية وتجارب ناجحة يمكن استلهامها، بما يُساعد على حماية مكتسبات المرحلة، وضمان قيام دولة مدنية عادلة.
1- مكامن الخلل في غياب الرقابة والشفافية:
أ- غياب جهة رقابية مستقلة وواضحة تراجع القرارات وتتابع عمل الحكومة وتطبيق قراراتها.
- لا توجد حتى اللحظة جهة رقابية محايدة ومنظمة تراجع قرارات التعيين والاتفاقات الكبرى وتُصدر تقاريرها للرأي العام.
- بعض التعيينات والقرارات تصدر دون بيان معايير واضحة، مما يفتح الباب للتكهنات ويضعف الثقة بها، حتى لو كانت بنوايا سليمة.
ب- ضعف الشفافية في التعيينات والاتفاقات
- الكثير من الاتفاقات مع جهات داخلية وخارجية لا يُكشف عنها للرأي العام أو للجهات المختصة، ما يُضعف الرقابة المجتمعية.
- لا يتم توضيح مبررات إعادة بعض المسؤولين إلى مناصبهم، ولا يُتاح للمواطنين حقّ الاطلاع أو مساءلة الجهات المنفذة.
2- الآثار المحتملة لغياب الرقابة والشفافية
- ضعف الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة، وهو أمر خطير في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة.
- احتكار القرار من قبل دائرة ضيقة دون مراجعة مستقلة، مما قد يفتح المجال للأخطاء المتراكمة، قد تفضي إلى دولة استبدادية جديدة.
- وجود تشويش في الصورة الإعلامية وتضارب الروايات، في ظل غياب مصادر معلومات رسمية وشفافة تصور الواقع كما هو.
- فتح الباب للتأويلات والافتراضات السلبية من جميع الجهات بما فيها جهات قد تكون مغرضة قد تستغل الغموض لتأليب الشارع.
3- حلول عملية وتجارب يمكن تطبيقها
أ- تشكيل هيئة رقابية وطنية مستقلة:
مثال: المملكة المتحدة
-تم تأسيس "لجنة الادارة العامة والشؤون الدستوري - المكتب الوطني للتدقيق" وهي هيئات مستقلة تراجع أداء الحكومة من حيث كفاءة التعيينات والرقابة المالية على الحكومة
-تطبيق مقترح في سوريا: تشكيل هيئة وطنية رقابية تضم قضاة سابقين، وأكاديميين، وخبراء مستقلين، تكون مهمتها مراجعة التعيينات والاتفاقات ونشر تقارير دورية للرأي العام.
ب- نشر المعايير الوظيفية بوضوح:
مثال: تونس بعد الثورة
-تم اعتماد نظام شفاف للتعيين في الوظائف العامة يقوم على الجدارة والمعايير المعلنة.
-تطبيق مقترح: إصدار كتيّب أو دليل رسمي يوضح معايير التعيين في الوظائف القيادية، ليُطمئن الرأي العام بأن الدولة تُبنى على الكفاءة لا الولاءات.
ج- تمكين الإعلام المسؤول:
مثال: كوريا الجنوبية
-الإعلام كان شريكاً أساسياً في كشف ملفات الفساد وتصحيح المسار، في ظل حماية قانونية له مثل قنوات (KBS - MBC- صحيفة تشوسون إلبو).
-تطبيق مقترح: فتح المجال لوسائل الإعلام الوطنية لتقوم بدورها الرقابي المهني دون ضغوطات مباشرة أو غير مباشرة، مع تشجيع التحقيقات الاستقصائية حول الأداء الحكومي.
د- فتح منصات إلكترونية للرقابة الشعبية:
مثال: جورجيا
- أنشأت الحكومة بوابة إلكترونية (Ge - GP) تُنشر فيها كل التعاقدات الحكومية وتفاصيلها، ويُتاح للجمهور مراجعتها وتقديم شكوى.
-تطبيق مقترح: إنشاء منصة رقمية سورية تنشر فيها الحكومة التعيينات والاتفاقات، وتتيح للمواطنين تقديم تعليقاتهم وملاحظاتهم ويتم مراجعتها من قبل الحكومة.
خاتمة:
إن البناء السليم للدولة يبدأ من ضبط العمل العام بالرقابة والمحاسبة، وتوفير الشفافية التي تعزز الثقة الشعبية وتحمي مسار الثورة من الانحراف، لا أحد يملك الحقيقة الكاملة، ولا أحد فوق المساءلة، وما نطرحه هنا ليس اتهاماً لأحد، بل دعوة للإصلاح من الداخل، وتصحيح المسار، وتحقيق ما خرج الناس من أجله: دولة عادلة تليق بتضحياتهم وتحقق تطلعاتهم لسورية الجديدة.