بعد سقوط نظام الأسد، عادت مسألة العلاقة بين سوريا وإسرائيل إلى الواجهة بقوة، وسط نقاش وطني محتدم تتشابك فيه الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. فالتطبيع لا يُختزل في انتقال سهل من "محور المقاومة" إلى حضن الغرب، بل يثير مخاوف عميقة تتعلق بالسيادة والهوية. الوطنية هنا ليست مجرد خطاب، بل قلق حقيقي من أن يقود أي تنازل سياسي إلى اعتراف رسمي بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للجولان وفلسطين، وهو ما قد ينقل التوتر العسكري من القنيطرة إلى درعا وريف دمشق، دون أن تُرفع التهديدات الأمنية عن سوريا. اجتماعياً، تستضيف سوريا نحو نصف مليون فلسطيني، وتحمِل الذاكرة الجمعية للشعب السوري تاريخاً طويلاً من الصراع مع إسرائيل، يمتد من نكبة 1948 وصولاً إلى أحداث السويداء الأخيرة. هذا الإرث الثقيل يُضفي حساسية عالية تجاه أي خطوة سياسية قد تُفهم كتفريط بالثوابت، خاصة في ظل الحضور القوي للتيارات الدينية واليسارية الرافضة للتطبيع، وهشاشة النسيج الوطني الذي قد يزداد تفتتاً إذا وُجّهت للحكومة الجديدة تهم بالعمالة أو التنازل. أما اقتصادياً، فرغم الإغراءات المرتبطة بالانفتاح الاقتصادي، إلا أن التجربة تقول إن التطبيع من موقع الضعف لا يجلب بالضرورة الانفراج، بل قد يُعمّق التبعية ويزيد الأزمات إذا لم يُبْنَ على أساس مشروع وطني متماسك يحفظ القرار الاقتصادي من التغول الخارجي.
عند النظر إلى أنواع الاتفاقيات الدولية الممكنة في حالات النزاع الشبيه بالحالة السورية–الإسرائيلية، نجد ثلاثة نماذج رئيسية: التطبيع الكامل، معاهدة سلام شاملة، أو اتفاقية فض اشتباك محدثة. التطبيع الكامل، كما تجسد في اتفاقيات إبراهيم، يتطلب اعترافاً متبادلاً وتعاوناً سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بما فيها التوافق على وضع نهائي للجولان. غير أن هذا النموذج يحمل مخاطر حقيقية، أبرزها أنه لا يضمن وقف التدخلات الإسرائيلية غير المعلنة في سوريا، كما أن الخلفية الأيديولوجية للحكومتين في دمشق وتل أبيب تجعل من غير المرجح أن تؤدي المفاوضات إلى حلول مرضية، خاصة في ظل هيمنة تيارات يمينية متشددة في إسرائيل. أما معاهدة السلام الشاملة، التي تطرحها المبادرة العربية وتدعمها السعودية، فتصطدم برفض إسرائيلي تقليدي للانسحاب من الأراضي المحتلة، وبواقع سوري هش لا يسمح بفرض شروط قوية على طاولة المفاوضات. في المقابل، تبرز اتفاقية فض الاشتباك كخيار عملي، إذ تركز على الترتيبات الأمنية وضبط الحدود دون الدخول في اعترافات سياسية أو تنازلات جوهرية، وتسمح بإشراف دولي يقلل من احتمالات التصعيد، مع الحفاظ على الخطاب الوطني السوري.
غير أن جوهر المفاضلة بين هذه الخيارات لا يتحدد فقط بمحتواها، بل بوجود استراتيجية أمن وطني واضحة ومتكاملة. فالتاريخ يعلمنا أن الاتفاقيات ليست غاية في ذاتها، بل أدوات ضمن رؤية أشمل. صلح الحديبية، الذي ظنه عمر بن الخطاب تراجعاً، تحول إلى فتح عظيم بفضل استراتيجية محكمة للصراع والتدرج في تحقيق الأهداف. كذلك الأمر في سوريا اليوم: الخيار الأمثل ليس الأكثر جذرية أو الأكثر شعبية، بل ذاك الذي يحقق المصلحة الوطنية الحقيقية ويؤسس لاستعادة الأراضي وحماية السيادة، دون تعريض البلاد لمخاطر التفكك أو فقدان الشرعية الداخلية. إن العودة لاتفاقية فض الاشتباك، مع تطويرها لتشمل آليات مراقبة دولية صارمة وخطة أمنية وطنية شاملة، تمنح سوريا فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة بناء مؤسساتها، دون الوقوع في فخ التطبيع غير المضمون أو الاندفاع نحو سلام هش. نهايةً، إن أي اتفاقية مع إسرائيل يجب أن تُبنى على قراءة دقيقة للواقع السوري وتقييم متزن للمخاطر، مع إعلاء المصلحة الوطنية دون تعنتٍ مخل أو استسهال مذل.