مقدمة:
في مرحلة ما بعد التحرير، تتجه الأنظار إلى بناء مؤسسات قادرة على حمل مشروع وطني جامع، يعيد الاعتبار للإنسان، ويؤسس لنهضة مدنية متجذرة في الواقع ومتطلعة إلى المستقبل. غير أن هذا الطموح يصطدم بعقبات بنيوية، أبرزها ضعف آليات استقطاب الكفاءات، التي يفترض أن تكون حجر الأساس في أي عملية إصلاح مؤسسي. فبدلًا من أن تكون الموارد البشرية بوابة للتمكين، تحولت في كثير من الحالات إلى أداة للإقصاء، والتهميش، وتكريس الرداءة.
توصيف المشكلة:
1. غياب الخبرة في إدارة الموارد البشرية
في ظل غياب مؤسسات تدريبية متخصصة، وتفكك البنية الإدارية السابقة، تولّى مسؤولية الموارد البشرية أفراد لا يمتلكون الحد الأدنى من المعرفة النظرية أو المهارات العملية في هذا المجال. فغابت عنهم مفاهيم مثل تحليل الوظائف، تقييم الأداء، إدارة المواهب، والتخطيط الاستراتيجي للكوادر.
وبدلاً من أن تكون عملية التوظيف مبنية على دراسة الاحتياج الفعلي للمؤسسة، أصبحت خاضعة للاجتهادات الشخصية، والعلاقات البينية، والانطباعات السطحية، مما أدى إلى استبعاد الكفاءات الحقيقية، وتثبيت من لا يملكون المؤهلات المناسبة.
2. اللجان بوصفها أداة إقصاء ناعم
اللجان التي يفترض أن تكون مساحة للتقييم الموضوعي، تحولت إلى أدوات لإيصال رسائل غير مباشرة: "لسنا بحاجة إليك"، أو "مكانك ليس هنا".
يُستدعى المتقدمون إلى مقابلات شكلية، تُطرح فيها أسئلة لا علاقة لها بالوظيفة، ويُحكم عليهم بناءً على ارتباكهم أو عدم إجابتهم على أسئلة مفخخة.
هذا الإقصاء لا يتم عبر الرفض الصريح، بل عبر الإحراج، والتقليل، والتهميش، مما يخلق بيئة طاردة للكفاءات، ويعزز الشعور بالظلم واللاعدالة.
3. اختبارات غير مهنية ولا وظيفية
تتكرر الأمثلة التي تكشف عن غياب المنهجية في التقييم:
- دكتور في الشريعة الإسلامية يُختبر في ضبط القرآن كما لو كان طالبًا في الصفوف الأولى، بدلًا من تقييم قدرته على الإرشاد، والتأثير، والتوجيه المعنوي.
- شاب متخصص في إدخال البيانات يُختبر في برنامج Excel بأسلوب غير علمي، يركز على تفاصيل لا تُستخدم عمليًا، بدلًا من اختبار دقته، وسرعته، وتنظيمه.
- حامل شهادة جامعية يُقابل من قبل شخص أمي أو ضعيف المستوى، مما يخلق فجوة معرفية تُفقد المقابلة معناها، وتُهدر طاقات المتقدمين.
هذه الأمثلة ليست حالات فردية، بل مؤشرات على خلل منهجي في فهم الوظائف، وتحديد معاييرها، وتقييم المتقدمين لها.
الآثار المترتبة:
- إقصاء الكفاءات
حين تُستبعد الكفاءات بسبب سوء التقييم، فإن المؤسسات تخسر فرصًا حقيقية للنهوض. فالعقول التي يمكن أن تُحدث فرقًا تُهمّش، وتُستبدل بمن لا يملكون الرؤية أو المهارة.
- تثبيت الرداءة:
في غياب التقييم الحقيقي، يبقى غير المؤهلين في مواقعهم، ويُعاد إنتاج الفشل، وتُكرّس البيروقراطية، ويُغلق الباب أمام التجديد والإبداع.
- فقدان الثقة
يتولد شعور عام بأن المؤسسات لا تبحث عن الأفضل، بل عن الأقرب، أو الأسهل، أو الأضعف. وهذا يُفقد المجتمع الثقة في عدالة التوظيف، ويُضعف الانتماء للمشروع الوطني.
الحلول المقترحة:
1. إعادة هيكلة لجان الموارد البشرية
لا بد من إعادة تشكيل اللجان على أسس علمية، بحيث تضم خبراء في الموارد البشرية، قادرين على فهم الوظائف، وتصميم أدوات تقييم مناسبة لها.
يجب أن تُبنى اللجان على التنوع المعرفي، والتكامل المهني، لا على العلاقات الشخصية أو الولاءات التنظيمية.
كما ينبغي أن تُخضع اللجان لتدريب دوري، يضمن تحديث أدواتها، وتحييد أحكامها، وتعزيز قدرتها على التقييم الموضوعي.
2. تصميم اختبارات وظيفية واقعية
لكل وظيفة طبيعة خاصة، تتطلب أدوات تقييم مصممة بعناية:
- التوجيه المعنوي يُقيّم في قدرته على الإقناع، والحضور، والتأثير، لا في الحفظ المجرد.
- إدخال البيانات يُختبر في التنظيم، والدقة، والتعامل مع ضغط العمل، لا في تفاصيل تقنية لا تُستخدم.
- الوظائف الإدارية تُقيّم في مهارات التواصل، والتخطيط، واتخاذ القرار، لا في معلومات نظرية لا تعكس الواقع.
الاختبار يجب أن يكون مرآة للوظيفة، لا فخًا للمتقدم.
3. تدريب المقابلين وتأهيلهم
المقابل ليس مجرد موظف، بل هو ممثل للمؤسسة، وصانع قرار يؤثر في مستقبلها.
لذا يجب تأهيله نفسيًا ومهنيًا، وتدريبه على مهارات المقابلة، وقراءة لغة الجسد، وتحييد الانطباعات الشخصية.
كما يجب أن يُمنع إجراء المقابلات من قبل من لا يمتلكون الحد الأدنى من الكفاءة المعرفية، حفاظًا على هيبة المؤسسة، وكرامة المتقدم.
4. إرساء الشفافية والعدالة
لا بد من نشر معايير التوظيف علنًا، وتوثيق مراحل التقييم، وإتاحة حق الاعتراض أو إعادة التقييم.
الشفافية ليست رفاهية، بل ضمانة للعدالة، ومصدر للثقة، وأداة لبناء علاقة صحية بين المؤسسة والمجتمع.
كما يجب أن تُنشر نتائج المقابلات بطريقة موضوعية، تُظهر نقاط القوة والضعف، وتُعزز ثقافة التقييم البنّاء.
ختاماً:
إن إصلاح منهج استقطاب الكوادر هو المدخل الحقيقي لبناء مؤسسات قوية، عادلة، وفاعلة.
فالمؤسسة لا تُبنى بالحجر، بل بالإنسان. وإذا لم نُحسن اختيار الإنسان، وتقييمه، وتمكينه، فإننا نعيد إنتاج الفشل، ونُجهض حلم البناء.
المرحلة الراهنة تتطلب شجاعة في النقد، وجرأة في الإصلاح، ورؤية تتجاوز الأشخاص إلى المنهج، وتتجاوز اللحظة إلى المستقبل.
#سورية_حرّة
#الإصلاح_الإداري