الثورة السورية بين تصنيمها والتخلي عنها

تاريخ النشر - 2024-06-29

الثورة السورية بين تصنيمها والتخلي عنها

 

يتجنب اليوم بعضُ من كانوا يفتخرون بانتمائهم إلى الثورة السورية  ذكرَ عبارة (الثورة) في كتاباتهم وأحاديثهم ومنهم من يقول إن الثورة السورية فشلت، والحديث عنها وكأنها لم تزل موجودة وتحقيق أهدافها لم يزل ممكناً هو ضرب من إنكار الواقع و(التصنيم) لثورة فشلت ويجب أن نضعها خلف ظهورنا ونسقطها من أدبياتنا.

هناك قاعدة منطقية تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، لذلك علينا أن نعرّف ما هي الثورة قبل أن نحكم عليها بالاستمرار أو الفشل. الثورة حركة اجتماعية واسعة تهدف إلى إحداث تغيير جذري في نظام الحكم.  هل الحركة الاجتماعية الواسعة التي بدأت في آذار عام 2011 والتي تهدف إلى تغيير نظام الحكم في سورية توقفت؟!  لا أعتقد ذلك، ملايين السوريين الذين رفضوا سلطة العائلة الأسدية ما زالوا يحملون هذا الرفض وكثيرون منهم يعبرون عنه بأشكال شتى  تختلف  عن الشكل الذي بدأت به الثورة من تنسيقيات ومظاهرات انتشرت في طول سورية وعرضها. لا نبالغ عندما نقول إن هناك مئات المبادرات والكيانات السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وفي المهجر في المجالات الثورية والسياسية والاجتماعية والحقوقية والإعلامية والتربوية والدعوية والطبية والإغاثية والثقافية وفي كل المجالات تقريباً وكلها تحمل فكرة الثورة المطالبة بتغيير جذري في نظام الحكم في سورية، إن ملايين السوريين في الشمال السوري وفي المهجر يرفضون بلسان حالهم ولسان مقالهم العيش تحت سلطة العائلة الأسدية مرة أخرى، ولن يعودوا إلى ديارهم من دون تغيير جذري ينهي سلطة هذه العائلة.

أريد أن أعترف أن مسألة إثبات استمرار الثورة أو فشلها وجهة نظر لا يمكن حسمها منطقياً كما تحسم المسائل الرياضية لكن دعونا ننظر إلى المسألة من زاوية علاقة اللغة بالواقع. علاقة اللغة بالواقع في الحقل الإنساني تختلف عنها في الحقل الطبيعي، اللغة في الحقل الطبيعي تعكس الواقع بينما في الحقل الإنساني تعكس الواقع أحياناً وتشكّله أحياناً أخرى. مثلاً، عندما تصف كائناً ينتمي وفق علم الطبيعة إلى فصيلة الحيوانات بأنه (حيوان) أنت تعكس واقعاً، لكن عندما تخاطب ابنك بعبارة (يا حيوان) أنت تشكّله، أنت تشكّل إنساناً ذليلاً يرتضي الإهانة. فإذا كان القول باستمرار الثورة وجهة نظر تحتمل الصواب أو الخطأ ما هو الأثر النفسي والسياسي للحكم على  الثورة بالاستمرار أو الفشل؟

نفسياً، عندما نقول الثورة فشلت هذا يعني أن  كل التضحيات والدماء ضاعت سدى وكفى بذلك محبطاً ومثبطاً لأي إرادة في التغيير، بينما القول إن الثورة مستمرة يحول التضحيات والدماء  إلى حافز ودافع لنا لنبذل المزيد حتى لا تضيع سدى.

سياسياً، عندما نقول الثورة فشلت نحن نجعل النظام وقوى الاستبداد الجديدة هي المنتصر ونحرم أنفسنا من استثمار التضحيات العظيمة التي قدمها أهل الثورة في تحصين المجتمع من استبداد جديد، أما عندما نقول الثورة مستمرة  فنحن نضع كل من يقف في وجه حريتنا في التعبير والتنظيم في مكان النظام، ونقول له أنت تقف في مواجهة دم مليون شهيد، ونحول هذا الدم من أول قطرة في درعا إلى آخر شهيد يقدمه السوريون إلى نهر واحد متعاظمٍ في هديره وقوته يدفع في اتجاه واحد لا عودة عنه: حرية السوريين وكرامتهم.
إن التوقعات العالية تدفع الإنسان أحياناً إلى الرفض الكلي للطرف المرتبط بهذه التوقعات عندما يخيّب هذا الطرف أمله وخصوصاً إذا ارتبط به بعاطفة قوية، تماماً عندما يخيّب ابنُك ظنّك ويكون دون توقعاتك فتقول له في لحظة انفعال: أنت لست ابني! هو موقف عاطفي انفعالي أكثر من كونه موقفاً عقلانياً وهذا برأيي يفسر انقلاب موقف بعض من كانوا من أشد المؤيدين للثورة إلى كافرين بها منظّرين لفشلها.

سبب آخر يدفع البعض إلى التبرؤ من الثورة وإعلان فشلها وهي الانتهاكات التي ارتكبت باسمها وتحت علَمها من قبل أشخاص لا خلاق لهم. هذا أيضاً ليس سبباً وجيهاً لإعلان فشل الثورة فهناك انتهاكات ارتكبت باسم الاسلام وتحت راية (لا إله إلا الله) هذا لا يعني التبرؤ من الاسلام ولا يعني الكفر بعبارة التوحيد. إن اختطاف الثورة وتشويهها من قبل المنتفعين والمتسلقين يعطينا حافزاً إضافياً لردّ الثورة إلى أصلها وأهلها، وهو أقل الوفاء لمن ضحوا من أجلها واستشهدوا تحت علَمها. وأخيراً تلعب أحياناً حاجة الإنسان إلى الشعور بالتميز والتفوق دوراً في حكمه على الثورة، فإذا كانت الجموع تهتف للثورة وتحييها فأنا الشخص المتميز الذي لا يسير مع القطيع!

القول بأن الثورة مستمرة لا يعني (تصنيمها) أي اعتبارها فعلاً مقدّساً مبرّأً من النقص والخطأ وغير خاضع للمراجعة والنقد، الثورة فعل بشري يحتاج بشكل دائم إلى النقد والتصويب والتطوير. ولا يعني أيضاً تقديس الثورة وعقد الولاء والبراء على أساس الموقف منها فإما أن تكون مع الثورة إذن أنت معي أو ضد الثورة إذن أنت ضدي وعلي أن أناصبك العداء! هناك من لا يؤمنون بمبدأ الثورات أصلاً كوسيلة للتغيير وهؤلاء ليسوا بالضرورة موالين للنظام وعلينا أن نحترم  وجهة نظرهم ونبحث عن مساحات الالتقاء معهم.

لو أن الثورة فشلت لعاد النظام إلى حكم المناطق التي خرجت عن سيطرته، ولعاد السوريون إلى قمقم الخوف الذي خرجوا منه، ولتوقف الصراع في سورية ولتوقف مكر الليل والنهار الذي يحيط بالسوريين من كل جانب لإفشال ثورتهم وإنهاء حلمهم بالحرية والكرامة لأن شعباً سورياً حراً ليس في مصلحة طغاة الأرض القريب منهم والبعيد، وهذا كله لم يحدث.

يوجد في التاريخ أمثلة عن أشخاص صنعوا انقلاباً عسكرياً قام به العشرات ثم حوله أصحاب الأقلام (عن قناعة أو مقابل أجر!) إلى حدث تاريخي عظيم ونقطة انعطاف في حياة الشعوب وبدأوا منذ اليوم التالي للانقلاب في استثماره  لتغيير أفكار الناس وسلوكياتهم مجندين كل تقنيات الإقناع وأنواع الأدب والفنون. بهذه الطريقة تحول ما يُسمّى (الحركة التصحيحية) أو (الفاتح من سبتمبر) إلى منعطفات تاريخية ساهمت في صياغة أفكار الناس وسلوكياتهم لعقود من الزمن. إذا كان هذا ما يفعله أهل الباطل بباطلهم  فلماذا نَئِدُ ثورتنا المُحقِّة بأيدينا ونقوم بنعيها وهي حية ترزق!؟ 

 بدلاً من إعلان فشل الثورة نستطيع أن نسخّر أقلامنا لجعل اللحظة الفارقة التي أطلق فيها ملايين السوريين ثورتهم في آذار عام 2011 بدايةً جديدة للمجتمع السوري ومنعطفاً تاريخياً في حياته نحو آفاق الحرية والكرامة، ونستطيع أن نخصّب بأفكارنا وسلوكنا المعاني والقيم الإنسانية التي حركتها الثورة في نفوسنا حتى يصل إشعاعُها إلى كل جوانب حياتنا، ونستطيع أن نراجع أخطاء ثورتنا  وننتقدها ونجددها - ولن نكون ثواراً بحق إن لم نفعل – من داخلها دون أن نتخلى عنها أو نعلن فشلها وموتها وهي لم تزل حية تُرزق تؤرّق  كل طغاة الأرض.

 

 

 

 

 

الدكتور ياسر تيسير العيتي

الدكتور ياسر تيسير العيتي - مواليد 1968 - إجازة في الطب البشري من كلية الطب في جامعة دمشق 1992 - دبلوم في الأمراض الداخلية من جامعة لندن - مدرب في مجالات القيادة والتفكير وبناء الذات ومدرب معتمد من مؤسسة فرانكلين كوفي للتدريب والاستشارات - عضو الأمانة العامة لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي سابقاً - عضو مجلس قيادة الثورة في مدينة دمشق سابقاً - رئيس مجلس الإدارة في مؤسسة (بنا) وهي منظمة مجتمع مدني مسجلة في تركيا تعنى ببناء القدرات والتنمية المجتمعية عند السوريين - رئيس تيار سورية الجديدة - ألف وعرب العديد من الكتب في مجالات الصحة العامة والذكاء العاطفي والقيادة والتفكير الناقد